الوعـد الحـق
عندما أعلن المتحدث العسكرى تامر الرفاعى في 19 ديسمبر الماضي خبرًا بعنوان «نجاة وزيرى الدفاع والداخلية»، وجاء في متن الخبر «استهدف مسلحون مطار العريش بقذيفة خلال تواجد وزيرى الدفاع صدقى صبحى، والداخلية مجدى عبدالغفار، وأسفر الهجوم عن استشهاد ضابط وإصابة اثنين آخرين بجروح، وأن القذيفة أتلفت إحدى طائرات الهليكوبتر جزئيا، ويذكر أن استهداف المطار جاء أثناء زيارة القائد العام للقوات المسلحة ووزير الداخلية، لتفقد القوات والحالة الأمنية بالعريش».
وحقيقة عاد القائدان بأعصاب من فولاذ من الحادث الإرهابى إلي المكتب والعمل مباشرة وكأن شيئًا لم يكن.. لكن أمرًا إدًّا كان قد حدث.. لكننى ساعة الخبر دب شيء فى صدرى له عناء الزلزلة.. شعرت بغصّة أغلقت منى الرئات.. كنت قد حسبتها بترت أو على شفا موات أذرع أخطبوط الإرهاب.. لم يكن سهلا أو يسيرا علينا اقتراب الخطر إلى هذا الحد.. إلى تلك المسافة القريبة.. إلى حيز ممنوع الاقتراب.. إلي أسوار السلك الشائك.. إلى نقطة النظام.. إلي رجلي المرحلة.. إلي رأسى الجيش والشرطة.. و..بدأت شبكات الترصد والتربص الاجتماعى نشاطاتها المريبة، وانبرت ألسنة أدعياء الدين تهرتل بالضلال، وتسلل كل من فى قلبه مرض لساحات التنظير، ونشُم من أنفاس حبر بعض الأقلام رائحة الشياط..
ومن بعدها.. ومن بعد عملية مسجد الروضة التي راح ضحيتها 300 مواطن يؤدون الصلاة، وزيارة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر للمسجد ليصلي فيه الجمعة ويلقى بيانًا دعا فيه المواطنين إلى التعاون مع القوات المسلحة داعيا الدولة إلى ضرورة اتخاذ أشد الإجراءات ضد الإرهابيين بما فيها القتل.. يقطع الرئيس مسار الاحتفال بالمولد النبوى الشريف ليتخذ الإطار طابع مهابة القائد الأعلي للقوات المسلحة عندما يُصدر أمره الملزم إلى الفريق محمد فريد رئيس أركان حرب القوات المسلحة ومنحه مهلة ثلاثة أشهر فقط يضع خلالها نهاية للإرهاب في جميع ربوع مصر مستخدما القوة الغاشمة.. وتبدأ العملية الشاملة «سيناء 2018» لنفاجأ في صباح الجمعة 9 فبراير ببدايات حرب التطهير عندما تتوالي بيانات القوات المسلحة التي أصبحنا ننتظرها بفارغ الصبر، وننتظر نجاحاتها فإن الوعد حق، وعلى طول مشوارنا معه.. الرئيس السيسى.. يوفى بالوعد. ونَجّد في البحث الملهوف عنها عبر القنوات لتطربنا وتشجينا وتروى شوقنا الجياش للأخذ بثأر الشهداء، ولنستمع لسيمفونيات دك معاقل الإرهابيين وأوكارهم، وضبط مئات المتسللين، وجبال من الأسلحة وأوكار وأنفاق وذخائر وألغام وعبوات ومخدرات وبؤر ومراكز اتصالات، وشراك خداعية، ودراجات نارية، وأسراب عربات دفع رباعى مفخخة، وأطنان من مواد شديد الانفجار C4 وTNT التى بقدر قليل منها تباد أحياء كاملة.
ولاتزال العملية الشاملة المقدسة مستمرة ووزيرا الدفاع والداخلية يتفقدان يتابعان علي أرض الطبيعة تنفيذ خطط تطهير أرض الوطن من الإرهاب، فعودتهما برعاية من المولي حميدة، لنستعيد التعبير الموجز المضيء الذى كان ينزل علينا بردًا وسلامًا «وعادت جميع قواتنا إلى قواعدها سالمة».. وتحيا مصر..
تجـــديد الخطــاب الغـــنائى
أم كلثوم.. كوكب الشرق وسيدة الغناء.. أول صورة تنشر لها بدون العباءة السوداء والعقال على غلاف مجلة النجوم الملونة في عددها الرابع بسعره العشرة مليمات بعدما قررت تغيير الإطار كاملا من حولها بالغناء على مسرح دار التمثيل العربى يصاحبها أفراد تخت يعزفون الموسيقى بدلا من اعتمادها على موسيقى شدوها المتفرد، ومن بعد طقاطيق «البحر بيضحك ليه وأنا نازلة أتدلع أملى القلل» انطلقت بصوتها على امتداد مقاماته السبعة عشر لتغنى فى صحبة العود والقانون قصائد الفصحى «الصب تفضحه عيونه» و«كم بعثنا مع النسيم سلامًا».. فى الذكرى الـ43 علي رحيلها فى 3 فبراير 1975 لم نجد وصفًا لها حفّزها على التجديد فى خطابها الغنائى أبلغ مما جاء في وصف شيخ جامع الأزهر وقتها ـ مصطفى عبدالرازق ــ فريد زمانه بأخلاقياته وإضافاته وعلومه وفلسفاته وأفكاره ومواقفه ومؤلفاته وترجماته.. الإمام الحائز على رتبة الباشوية ووسام جوقة الشرف الفرنسية.
ام كلثوم فى أول ظهور لها بدون العقال عام 1926
يكتب الشاعر المتذوق فضيلة شيخ الأزهر فى عام 1925 وصفًا لأم كلثوم: «وإنى كلما ذكرت الشيوخ ذكرت أم كلثوم أميرة الغناء فى وادى النيل، فإن لها هى أيضًا شيوخًا يحفون بها فى عمائمهم المرفوعة وأكمامهم المهفهفة وقفاطينهم الحريرية الزاهية اللامعة وجببهم الطويلة الواسعة. عن اليمين شيخان وعن اليسار شيخان حول فتاة معتدلة القوام لا يشتكى منها قصر ولا طول ولا يشتكى غلظ فيها ولا نُحول وتنظر بعينين فيهما شباب وذكاء، وفيها نزوة الدعابة ودلال الحسناء في وجه ليست تفاصيله كلها جميلة، ولكن لجملته روعة الجمال، تحت ذلك العقال البدوى مكفكفا على جبينها بطراز مذهب ومرخى وراء ظهرها منه هداب الدمقس المفتل، في ثياب حشمة تميل إلى السواد، وفي مظهر بساطة، كان على سجيته يوم كانت الفتاة القروية حديثة عهد بسذاجة الريف، ثم أصبح تأنقًا مقدرًا. تظهر أم كلثوم بادئ الأمر رزينة ساكنة تشدو بصوتها الحلو شدوًا لينًا، من غير أن يتحرك طرف من أطرافها إلا هزّة لطيفة تنبض بها رجلها اليسرى أحيانًا ثم ينبعث الطرب في هيكلها كله فتنهض قائمة وترسل النغمات متعالية تذهب في الآفاق هتافًا مرددًا أو تترجع رويدًا حتى تتلاشى حنينًا خافتًا، وتهزها أريحية الشباب والطرب فتساير الآهات فى حركاتها، مندفعة بوثبات الشعور وراء مذاهب الفن، وتتلوى عن يمينها وشمالها أعناق الشيوخ.. وياليت شعرى ما لأم كلثوم والشيوخ؟!.. أم كلثوم من نِعم الدنيا.. فما بالها تأبي إلا أن تتجلى على الناس فى ظهر الآخرة؟!
آدم حــنين
فتح الغلام الباب فدخلتُ عالمًا خارج حدود الألفة والمألوف.. ساحة مزدحمة شخوصها غير الشخوص، وسكانها لا أحد منهم يقبل عليك بترحاب أو بسلام استقبال أو بالتحية الواجبة لقدوم الضيوف.. الكل صامت وعلى رأسه الطير المسبهل، لا هشّة ولا بشّة ولا رعشة ولا أدني حركة يبدل فيها أحد الوجود من وضعه الحجرى الراسخ بدعوى تيبس أو تخشب أو ملل من طول المكوث كما قدّر له.. لكن عينى الثاقبة ــ لا مؤاخذة ــ التقطته قابعًا وسط ساحة تماثيله في حديقة متحفه الخاص بالحرانية على شط مياه المريوطية التعسة.. النحات المصري العالمى آدم حنين جالسًا في منتصف مسرحه الخاص.. هائمًا لاهيًا مُحلقًا بين منحوتاته فى الصخر. بين الكتل الثابتة بحركتها الباطنية التي تعيش في قلب الساكن.. بين فنون براعة الاختزان والاختزال في وحدة الصمت الكبير الحامل في سره مفاتيح الصفاء المطلق.. آدم النحات الذى أمعن فى التجريد والاختزال داخل الحجر ليغيّب الأيدى ويخفي السيقان ويشفر الملامح والحدقات، لتبقى الأحجام والقامات مجردة، ويحجب بإرادته أجنحة الطير لكنه يبقي في سكونه مغردًا، ويذوّب المتحول فى الكائن الثابت، ويتجلّى الخفى فى جسامة المادة.. ويمتد خط الإمعان فى التجريد لتغدو أخريات إبداعات آدم في جوانب المكان كتلا مجسمة وفراغات لها دلالات، وانشطارات داخل الجرانيت، وإشارات تأتى من باطن الحجر تعكس بعدًا فرعونيًا يتوهج علي اختلاف المواضيع والأحجام فى سكة الزمان التي مشي فيها آدم حاملا إزميله متكئًا على معطيات الحجر..
آدم حنين الذى لن يستطيع يومًا أن يقول لتمثال صنعه عند اكتماله «انطق» مثلما قالها النحات العالمى مايكل أنجلو بعد انتهائه من تمثال «ديفيد» الدقيق الصنع لحد التماثل البشرى، فهو مؤمن بأن الخطاب الذى يقدمه التمثال ليس خطابًا بصريا، وإنما خطابا وجدانيًا فيقول: «لا أميل إلى المباشرة فى أعمالى كنحت الوجه والتفاصيل الجسدية الأخرى، لأن نحت الشكل شطارة نجح فيها فنانون كُثر، لكن الإبداع وروح الفنان هما ما يعول عليهما، فالمشاعر وحدها هى التى تحركنى لا العقل» وهو في ذلك لا ينحت إلا مدفوعا برغبة الحب وتدفق المشاعر فى عروق وشرايين كفيه، وكم من أعمال كثيرة استغرقت منه عشرات السنين في نحتها لأن مخزون مشاعره فى لحظتها لم يكن كافيا، فيعود إليها ربما بعد سنوات، لكنه عندما يعود يكون مشحونا بالمشاعر ذاتها لاستكمالها، ومن هنا فإن غالبية الأعمال التى ينحتها يستمر العمل فيها علي مدى طويل متقطع.
و..لقد كان زوجى الفنان التشكيلى منير كنعان يحب أعماله أكثر من أى شيء في الوجود. منى أنا رغم قصة الحب الكبير، ومن ابنه الوحيد، حيث يأتى كـلانا في المرتبة الثانية من بعد أبنائه الحقيقيين.. لوحاته.. التي كان حريصًا علي قربها إلى حد النوم بينها مستنشقًا عبير زيوت ألوانها، وعندما ابتعد قسرًا عنها لزوم المرض لم يحتمل البعاد فمات، وهو الذى كان قبل رحيله بأسبوع ماشيًا على قدميه للمستشفى.. وبالأمس شاهدت توءمًا لمثل تلك الوشائج من الارتباط العميق.. من تعلق الفنان بأعماله لدرجة الوجد والالتصاق والوله.. لمست أمامى من جديد مسار ذلك الرباط السُرى بين المبدع وإبداعاته.. بين الأجنة التي تربت في أرحام الإلهام وخرجت للنور لتحيا فى الكنف.. شاهدت بعيني رأسى معنى الجلوس في رحاب الجنة.. مشهد التواصل والالتئام وحكاية غرام. آدم جالسًا وباله منهم. من تماثيله. بين قدميه منحوتة لحمامة ومن خلفه فى ظهره بطول الحديقة سفينة نوح ــ آدم ــ الحجرية تحمل من كل الخلق نموذجًا.. تمخر عباب الخيال والمحال والجمال حاملة المرأة والرجل والطفل والنبات والسمكة والحصان والحمار والبومة والقط واليمامة والديك وشيخ البلد.. والفلاح وأم كلثوم وصلاح جاهين... «السفينة عفاف» علي اسم زوجة آدم الراحلة التى أنقذته من خضم اليم لترسو به على شاطئ الأمان وسط الأمواج والأنواء الهادرة والدوامات الجاذبة والتماسيح المفترسة وبطن الحوت.. عفاف عالمة الأنثروبولوجيا التي التقاها في بعثته بميونخ عام 1960 لتغدو زوجته ومديرة أعماله لينتقل معها عام 1971 لباريس للإقامة خمسا وعشرين عاما يعيش فيها علي مدخول إنتاجه الفنى المتأرجح..
حكاية آدم ابن باب الشعرية المولود في 1929 مع النحت بدأت فى سن الثامنة عند دخوله المتحف المصرى بالتحرير للمرة الأولى في حياته ضمن رحلة مدرسته الفالوجا بصحبة مدرس التاريخ، وهى الزيارة التى يصفها بالمحور الأهم في حياته: «دخلت المتحف المصرى لأهيم بين التماثيل ووقعت في غرام الحضارة الفرعونية وكأن قلبي قد انفطر من جلال ما شاهدته».. هذا العَالِم الأثرى الثرى جعل الفنان الساكن في الكيان الصغير يقرر أن يجعله جزءا منه ليترجم ذلك في أول تمثال قام بصنعه من الصلصال على شكل اخناتون ليشجعه الوالد الصائغ بوضعه في فاترينة ورشة الفضة التي يملكها في حى الصاغة، ويكبر الفتي ليختار الفن مهنة له فيلتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بالقاهرة ليقود بداخلها شبه ثورة اعتراضًا على الأسلوب السائد في التدريس بقسم النحت المتمثل في اتخاذ التماثيل اليونانية نموذجًا بدلا من الفرعونية، وقدم طلبا للتحويل لقسم التصوير لكنه تراجع بعد موافقة عميد الكلية علي وجهة نظره، ومن هنا بدأ التدريب فى المتحف المصرى لمحاكاة التماثيل الفرعونية.. ومن بعد سنوات التخرج وفترة يعيشها آدم متنقلا بين الأقصر والقاهرة وميونخ وفينيسيا يقرر السفر علي سطح مركب إلى النوبة قبل غرقها.. خلع ذات صباح ملابس المدينة ودخل في جلباب فضفاض وحمل فرشاته وإزميله وجراية الطعام ورحل ليُقيم في قرية نائية فى بلاد النوبة.. افترش سطح الباخرة النيلية التى تتوقف عند كل القرى من أسوان إلى الشلال حاملة البريد والمسافرين، واختار نقطة تبعد عن أسوان مسافة 80 كيلومترا سار إليها على قدميه على مدى خمسة عشر يومًا بين دروب صخرية أو بالنداء على إحدى المراكب الشراعية التي تحمل القلل القِناوى الفخارية، أو قاضيًا ليلته في بيت أحد العمد إلي أن وصل إلى قرية «المارية» التى وجد له عمدتها دارًا من ثلاث مطارح وفناء ليقضي عشرة أشهر مستلهمًا حضارة النوبة الجامعة ما بين الفرعونية والقبطية والإسلامية فى نسيج واحد تنعكس أجواؤه على البيت النوبى ونسق الحياة السلسة في انسجام فنى عزّ وجوده في أية عاصمة عصرية في العالم أجمع، فالمبانى في تآلف ووصال مع الملابس والعادات والتقاليد والأخلاق.. هناك فى النوبة النظيفة تخفت الأصوات وتتبدد المشاكل قديمها وحديثها ويتكشف لك الطريق سهلا معبدا علي جانبيه النخلات باسقات..
فى السبعينيات يعود آدم من بعد إقامته في باريس ليظل لا يعرف إلا كرسام إلى أن يكتشف الجمهور العريض منحوتاته فى مطلع الثمانينيات لتتعدد معارضه الفردية في مصر وأوروبا بين روما وميونخ ولندن وبروكسل، وفى مطلع التسعينيات تخرج أعماله النحتية من القاهرة ليخصص لها معرض شامل في باريس بمعهد العالم العربى حيث يعتمد في نحته علي مواد مختلفة كالجرانيت والبازلت والحجر الجيرى، ويختار من البرونز ألوانا عدة منها الجاف الزيتى المعتق والأملس الكستنائى والمتلألئ ببريق ذهبى حار، ومن هذه المواد والألوان تتوالد الجاموسة واليمامة والبومة والسمكة والحصان، ورغم غياب ملامحها في مظهر التجريد تحافظ على طابعها الفرعونى العتيق الذى يقول عنه آدم: «تشربت الفن المصرى منذ الطفولة، عشت معه وفيه ولقد قال الفراعنة في فنهم المختصر المفيد».. ويوكل وزير الثقافة وقتها الفنان الكبير فاروق حسنى فى عام 1990 مهمة ترميم تمثال أبوالهول لآدم حنين الذى قام بتأسيس سمبوزيوم النحت الدولى في أسوان ليشرف عليه منذ بدايته عام 1996 ليستمر إقامته سنويًا حتى الآن ليكون الملتقي الفنى للمصريين والأجانب وموعده من 25 يناير حتى 15 مارس وأهم أهدافه إحياء فن النحت القديم ومعايشته للحديث، وكان اختيار أسوان للحدث الفني السنوى لما تحتويه من جبال جراتينية تساعد على الإبداع النحتى، إلي جانب إعادة تشغيل محاجر أسوان.. وعلي هامش تلك التظاهرة الفنية نبت مجتمع صناعى يعمل طوال العام علي تجهيز الأحجار وانتقائها من الجبال والمرتفعات الممتدة.. ويراهن آدم حنين علي قدرة العطاء والإبداع لفنانى النحت من الشباب بعدما لمس تطلعاتهم وتواصل معهم ونقل في إخلاص خبراته إليهم والنصح لهم بالبحث عن الهوية الحقيقية لما يبدعونه بأناملهم، وعدم السماح لهم بالنسخ والتقليد للكبار، ومن رحم هذا المضمون جاءت فكرة جائزة فن النحت للشباب تحت سن الـ35 التى تحمل اسم آدم حنين حيث تمنح الجائزة الأولي 50 ألف جنيه، والثانية منحة مجانية للإقامة لمدة أسبوعين والعمل بأتيلية الفنان في الحرانية وتحت إشرافه، ورصدت مؤسسة آدم للعام القادم سبعين ألفاً، إلي جانب مسابقات الفنون التشكيلية لمراحل التعليم ما قبل الجامعى التى بلغ عدد الأعمال المقدمة لها 1400 عمل من مراحل التعليم الثلاث، وفاز بالمركز الأول في قسم النحت بالمرحلة الإعدادية مناصفة ربيع ميوب تعلب، وعلاء أحمد محمد وهما مكفوفان من الفيوم..
سرحت في آدم شابًا وسيمًا بعيون خضر واثق الخطوة يمشي ملكًا ويصنع ملكه بأزميله، وانتهيت إليه بجوارى قابعًا هادئًا سارحًا متكئًا في جلسته علي عصاه التي بنهايتها بطارية تنير خطاه إذا ما جن الليل وانقطع سلك مولد الكهرباء.. لكننى ما أن فتحت حقيبة يدى بجواره لالتقاط القلم حتى لاحقت عيناه حركتى لتزحف يده بدورها بداخلها لتخرج بالمشط يرفعه لرأسه ليسرح خصلاته الفضية تخوفًا من أن يكون الهواء قد نكش شعره فأحدث خروجًا عن الإطار بينما صاحبه يحب كل شيء من حوله منمقا منضبطا أخاذًا ناعمًا أملسًا حتى في مجال أسطح البازلت والبرونز والحجر الصوان، وذاك ما شعرت به وأنا أملس علي رأس حماره المنحوت باستكانة يحسد علي زرعها بداخله عبقرى النحت الذى ترجم صفة امتثال صنف الحمار في ثنايا الحجر.. حمار آدم الذى نقل لىّ إحساسًا بتفرده حتى ظننت أنه محال أن ينهق كجميع أفراد فصيلته وإنما لو رفع عقيرته فبالغناء، ومحال أن يزرجن وإنما مستكين ومطاوع علي طول الخط، ومحال أن يبرطع وإنما يمشي الهوينى على قشر بيض.. وما الحياة إلا أخذ وعطاء، ولقد أعطى آدم الكثير طيلة المشوار الطويل، والآن آن لليد التى عشقت الحجر.. أدمنت الحجر.. كلمت الحجر.. أنطقت الحجر.. آن لها أن تجلس مسترخية ترفع إلى الفم رشفات من فنجان قهوة «مضبوط» فى الإطار الجمالى المحيط، وآن للصدر الذى امتلأ بدقيق الإزميل وتراب الحجر أن يستريح ويتنفس هواء نقيًا بعدما سكن الحجر واستقر في مشهد النحت الآدمى الأخاذ.. آن لآدم إسناد ظهره بعد انحناء الطَرْق والحفر والصب والبرد والكحت.. آن للمتصوف في العالم الحجرى أن يجلس على عرشه لتلقي قرابين الثناء والمديح والإعجاب من الوفود الداخلة والخارجة دومًا لمتحفه لزيارة عالم الإبداع والتقاط صور شخصية مع صانعه.. و..وأنا عندي تمثال لآدم حنين من زمن.. عشرات السنين.. تمثال من طين من أولى أعماله في النوبة.. تحفة نادرة لرأس امرأة نوبية بضفائرها وزلعتها وابتسامتها وخرزات زرقاء في عيونها وحول جيدها قلادة فرعونية، ولما كان كنعان قد اقتنى تحفة آدم النوبية في شرخ شبابهما عندما أقاما مع جمع من الفنانين ــ العمالقة الآن ــ معرضا لأعمالهم في أتيليه القاهرة أطلقوا عليه في أوائل الستينيات عنوان «الفن في متناول الجميع» تباع فيها أعمالهم بأسعار رمزية بهدف انتشار الفن المصرى فى البيت المصرى بدلا من اللوحات والتماثيل المقلدة لأعمال الأجانب، وقال لي آدم من بعد ادعاء تذكره وتفكيره بأن زوجى قد ضحك عليه وقتها لأنه اشترى النوبية بثلاثين جنيها فقط، وفوجئت به مُتذكرًا ذلك السعر، وهو من تقتنى أعماله المتاحف العالمية والدول، ولمحتها في عينيه عندما قمت بفتح مغاليق الغطاء ونزعت عن النوبية لفائفها الكثيفة خوفًا عليها من هزات الطريق.. تلك النظرة المستنفرة المتحفزة لمن تقع عيناه فجأة على ضالتها التي غابت عنها طويلا في غياهب المجهول.. وكأن جميع أعمال آدم التي تحيطنا في غابة التماثيل العملاقة بما فيها سفينة عفاف المسترخية بطول وعرض الساحة بما عليها من منحوتات.. كلها كلها انزلقت بعيدًا.. تكومت فى نقطة اللااهتمام.. تقهقرت.. أخذت خطوات للوراء.. اختفت خلف الستار.. توارت خجلا وراء الكواليس، ولم يعد مسيطرًا علي المشهد وفي قبلة المسرح سوى التمثال الغلبان.. النوبية الطينية.. ووجدته يقبله.. آدم.. لم يعد في محيط غرامياته حواء سواه، وكأنه طوال عمره لم ينحت سواه، وعندما أمال مساعده التمثال لنفض ما قد يكون عالقًا في تجويف زلعته الصغيرة التي تعتلى الرأس سقط بعض التراب المزمن اللاصق فوجدت آدم لدهشتى يتحسسه ثم يرفع إصبعه إلى فمه، وعندما نبهته خشية التلوث ضحك لأهتف حقيقة إن آدم من تراب.. وما كان يتوقعه ابنى ساعة قام بتغليف التمثال قبل أن أحمله إلي مبدعه قد حدث، فقد ساومنى آدم عليه بإغراء أن يبدله لى بتمثال حديث فأعلنت رفضي القاطع، وعاودت شرحى بأننى أتيت بكنزى ليوقعه صاحبه ليزداد قيمة وعراقة، واستجاب آدم ووقع تمثالى ــ تمثاله ــ حفر اسمه مع تاريخ نحته 1960.. ويميل آدم في أذنى هامسًا.. يسألنى عن عمر كنعان وقت الرحيل، فرددت بمثل همسه: في الثانية والتسعين..
وتفتح أمامى في غدوى ورواحى بوابة مبني الأهرام الإلكترونية فى شارع الجلاء لألقاه محلقًا فى الواجهة.. تمثال النسر الطائر لآدم حنين الذى قام بتكليفه بعمله الأستاذ محمد حسنين هيكل ليعكس رمزًا لصحافة الأهرام المحلقة الراصدة لآفاق السياسة والقضايا والأخبار.. وكان المقابل المادي للعمل الخالد ألفي جنيه في زمان الستينيات مما أتاح لآدم حنين شراء قطعة الأرض الفضاء التي أقام عليها بيتا ومتحفا بالحرانية بمنطقة سقارة ليجاور فيها الأمجد أمجاد الأجداد.
sanaaelbssi@ymail.com
No comments:
Post a Comment